هبوط سلس
بالنسبة للمتطوعين مثل سامي راهيكاينين، فإن بناء الثقة مع المهاجرين الذين يأتون إلى مكان جديد بحثًا عن حياة جديدة أمر بالغ الأهمية. هذه قصته.
vc_edit_form_fields_attributes_vc_
الرسوم الإيضاحية: ماريا ماريا آتشا كوتشر
باتريشيا ليدل كاتبة ومحررة مقيمة في كابول، أفغانستان، كتبت تقاريراً مستفيضة حول العنف الجنساني. كتابها الحديث، عقيدة هيلاري، والجنس، والسياسة الأمريكية الخارجية، الذي شاركت في تأليفه مع فاليري إم. هدسون، متوفر من مطبعة جامعة كولومبيا.
تقول الكاتبة والباحثة باتريشيا ليدل إنّ مساعدة المجتمعات على التعافي من الأزمات والتغلب على الفقر يتطلب المزيد من الحماية للسيدات والفتيات
لم تكن نانسي قد تجاوزت الرابعة عشر عاماً عندما قبّلت أمها مودّعة وذهبت في طريقها لتمضي الظهيرة في المذاكرة مع أصدقائها. كانت هذه المرة الأخيرة التي تراها مارتا ريبالدو (ليس اسمها الحقيقي).
مكالمة فائتة واحدة كانت لتعطي فكرة عن آخر مكان تواجدت فيه الفتاة المراهقة.
لكن ريبالدو كانت تعمل في مناوبة لإثنتي عشرة ساعة في واحدة من آلاف الماكيلادوراس (مصانع الاستيراد والتصدير) بالمكسيك، لذا لم تتمكن من الرد على الهاتف. وتقول متسائلة: «لو استطعت الرد على الهاتف، هل كنت سأتمكن من مساعدتها؟ لا أعلم».
اليوم، لا تزال هذه المكالمة الفائتة تطارد أم الثلاثة أولاد التي تبلغ من العمر 45 عاماً. وقد تسبب وباء قتل الإناث المستمر في المكسيك في ضحية أخرى: واحدة مما يُقدر بـ 44,000 على مدار العقود الثلاثة الماضية.
ووفقاً لإحصائيات الحكومة المكسيكية، في عام 2015 وصل عدد السيدات والفتيات اللاتي يُقتلن يومياً إلى سبعة. وهذا لا يأخذ في الحسبان عشرات الآلاف من النساء، مثل نانسي، اللاتي يختفين ببساطة.
الآن تقوم ريبالدو بإيصال ابنتيها الأخريين إلى المدرسة كل صباح وتقابلهما بعد ظهر كل يوم عندما تغادران فصليهما. وتلاحقهما كظليهما عند زيارة الأصدقاء، وتسبب لهما الكثير من الإحراج بينما تكون على بعد خطوات قليلة منهما عندما تذهبان للتسوق. ورغم أن كلتيهما الآن في مرحلة المراهقة، إلا أن والدتهما تصاحبهما إلى متجر الزاوية الذي يوجد على بعد مربع سكني. لا تتواجد أي منهما بمفردها على الإطلاق.
إلا أن يقظتها هذه تكلفها ثمناً باهظاً. فإصرار ريبالدو على حماية ابنتيها الأخريين يتعقد بملاحقتها عديمة الجدوى لابنتها التي اختفت، أولا إلى الشرطة، ثم إلى المشرحة، ثم إلى الفيسكاليا (مدعي عام المنطقة) وتعاود الكَرة مرة أخرى، يوماً غير مجدٍ بعد الآخر. وبعد أن أصابها الإنهاك والتعب، تركت ريبالدو وظيفتها.
واسترد البنك ملكية منزلها الصغير. وتبخرت مدخراتها. وتخشى أن تعاني ابنتيهما حيث أنها، وهو الأمر الأسوأ، أصبحت متورطة مع أعضاء عصابة. وكانت الأخت الكبرى على الدوام مفرطة الحماية، فكانت تُذكر أختيها الصغيرتين بتجاهل تملق عصابات قطاع الطرق المحلية. تقول الأم ريبالدو: «عندما اختفت نانسي، فقدت الضوء»، وتستطرد وقد اعتراها الحزن: «وكلنا فقدنا مستقبلنا».
دافع للفقر
إنها قصة واحدة، لكنها واحدة من ضمن ملايين القصص التي تتكرر في جميع أنحاء العالم. وفقاً للخبراء، لا يدمر العنف الجنساني (GBV) الأسر ويحطم الأساس الجوهري للمجتمع فحسب، بل إنه أيضاً سبب رئيسي في تفشي الفقر. فبالإضافة إلى الندبات الجسدية والنفسية التي يتركها على هؤلاء المتضررين بشكل مباشر، فإن للعنف الجنساني تداعيات تتجاوز المجتمعات المحلية وتؤثر على قدرة المجتمعات على التعافي التام بعد الأزمات.
وحتى في الاقتصادات عالية الأداء في أوقات الهدوء النسبي، يعد العنف المنزلي استنزافاً كبيراً للموارد الوطنية.
في تشيلي، وجدت دراسة أجرتها الحكومة أن العنف المنزلي يكلف الدولة ما يعادل 1.56 مليار دولار أمريكي، أو أكثر من 2% من إجمالي الناتج المحلي (GDP) للدولة. وهذا في الرواتب التي تخسرها السيدات فقط. وفي الولايات المتحدة الأمريكية، تتجاوز تكلفة العنف ضد النساء الذي يمارسه الشركاء المقربون ما يقدر بـ 5.8 مليار دولار سنوياً. وعلى الرغم من أن الكثير من البيانات يدور حول العنف المنزلي، إلا أن الدراسات تشير إلى أنّ جميع أشكال العنف الجنساني ترتبط بانخفاض إجمالي الناتج المحلي. ففي جنوب إفريقيا، على سبيل المثال، يُقدر الباحثون في شركة الخدمات المهنية والتدقيق كيه بي إم جي، أنه ما بين عامي 2012 و2013، كلف العنف ضد السيدات والفتيات الدولة ما بين 0.9 بالمائة و1.3 بالمائة من إجمالي ناتجها المحلي، ويقول الباحثون عن هذه الأرقام إنّها على الأرجح تقليل جسيم. وفي أمريكا اللاتينية، حيث قتل الإناث والعنف الجنساني بين الأعلى في العالم، فإن الآثار السلبية على الاقتصاد فادحة، حيث أنها لا تتسبب في هدم الأسر فحسب، لكنها تدفعهم حتى لمغادرة بلادهم.
وللعنف أثر اقتصادي يمكن لمسه حتى في الشمال، أي في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث أنه في عام 2016، احتجزت سلطات الحدود الأمريكية في الجانب الجنوب غربي أكثر من 70,000 أسرة وما يقرب من 60,000 طفل من دون أقارب. ويكلّف السجن، ولمّ شمل الأسر وتتبعها، والترحيل، والإسكان، والطعام، أرقاماً خياليّة.
المعاناة: التكلفة غير الملموسة
قلما تعكس البحوث والسياسات أي تكاليف أخرى “غير ملموسة”، مثل الألم والمعاناة أو الأثر النفسي على الأطفال الذي قد يؤثر على قدرتهم المستقبلية على الكسب. ولا تبحث في الخسائر متعددة الأجيال، مثل الفرص الاقتصادية التي تضيع من الأطفال الذين يشهدون العنف الشديد، الذين تُقتل أمهاتهم أو يُسحبون من المدارس لأن والديهم يخشون تعرضهم للاستغلال الجنسي، أو الاغتصاب، و/أو القتل.
ووفقاً لبريانكا بهاليا، استشارية العنف الجنساني بالاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، لا يمكن إدراك هذه الأمور عدا عند دراستها على المدى الطويل، وهذه الدراسة لم يباشرها حتى الآن سوى عدد قليل من المنظمات الدولية، أو الحكومات، أو المؤسسات التعليمية.
وعن ذلك تقول: «يؤثر العنف الجنساني على المجتمعات بكل الطرق». وتضيف: «فثمة آثار نفسية، وآثار اقتصادية. فإذا اضطروا للذهاب إلى الشرطة أو تحمل التكاليف الطبية، فقد يدمر ذلك الأسرة».
وقد لاحظت بهاليا في حالات عدة، أن وصمة العار والصمت يعنيان أن الضحايا والمقربين إليهم سيختارون عدم رفع دعوى أو طلب عناية طبية. هذا حقيقي لا سيّما بالنسبة للناجين الذين يعيشون في دول يسودها الفقر الشديد، والكوارث الإنسانية، وضعف الحكومات المحلية، وارتفاع معدلات العنف ضد السيدات والفتيات.
وتقول بهاليا: «مشكلة المنظمات الدولية هي أننا نادراً ما نلحظ الآثار طويلة المدى للعنف الجنساني». وفي الظروف المعتادة، نادراً ما يتجاوز “خط الأفق” لكثير من الإغاثات الدولية والتنمية الخمس سنوات.
وتشير قائلة: «الأثر الاقتصادي للعنف الجنساني شيء يحدث بمرور الوقت، فإن لم تكن تعمل ضمن المجتمع لفترة زمنية طويلة، وإن لم تواظب على العودة، ببساطة لن تدرك الأمر».
بريانكا بهاليا، استشارية العنف الجنساني بالاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر في منطقة آسيا والمحيط الهادئ
في بلدية دجيبيديون، في منطقة كازامانس بالسنغال، أتاح برنامج حديقة السوق الذي تقدمه اللجنة الدولية للصليب الأحمر للسيدات أن يكسبن عيشهن ضمن مناطق آمنة في المدينة، خلافاً لنشاطات الحصاد الأكثر خطورة البعيدة عن المدينة. هنا تقوم السيدات برص الفلفل الحار الذي يزرعونه في إطار البرنامج لتجفيفه في الشمس. الصورة: خوسية سيندون/اللجنة الدولية للصليب الأحمر
تفاقم الأوضاع في حالات الطوارئ
بشكل مماثل، في الأماكن التي تضربها الكوارث الطبيعية أو أي أزمة أخرى، كثيراً ما تكون هناك ندرة في بيانات خط الأساس التي يمكن الاعتماد عليها حول تكرار حدوث العنف الجنساني، مما يُصعب معرفة الكيفية التي يتغير بها العنف بعد الصدمات بدقة. غير أن هناك دليل متنامٍ بأن الإفقار الذي تتسبب به حالات الطوارئ يزيد كلاًّ من حدوث العنف الجنساني وتأثيره.
ووفقاً لـتقرير ل”لم يُرَ، لم يُسمع” (Unseen, unheard)، في دراسة عالمية عن العنف الجنساني في حالات الكوارث نشرها الاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر عام 2015 “يبدو أن الضغوط الاقتصادية المتزايدة الناجمة عن الكوارث ترفع حدة توتر الأسر والعنف الجنساني”.
ويستطرد التقرير أنه علاوة على ذلك، فالطريقة التي يُعالج بها الفقر (أو لا يُعالج) في سياق ما بعد الكوارث يمكن أن يكون لها أثر ويضيف: “حيث أنّهن يفتقرن إلى البدائل الاقتصادية، لا يكون أمام السيدات والفتيات اللاتي في علاقات مؤذية خيار سوى البقاء مع المسيئين لهن” عقب وقوع الكوارث”.
وقد يجبر الفقر واليأس أيضاً الكثير من السيدات والفتيات على زواج الأطفال أو الاتجار بالجنس (مقابل المال، أو الغذاء، أو الحماية)، ويصبحن أكثر ضعفاً أمام المتاجرين. من ناحية أخرى، فإن البرامج المخصصة لمساعدة السيدات “يجب أن تُصمم وتُنفذ بدقة، حيث يمكن للفرص الاقتصادية الجديدة أن تعرض الفتيات والسيدات إلى مخاطر جديدة (على سبيل المثال إذا احتجن إلى السفر لوظيفة جديدة)”.
وفي حين أن العنف الجنساني أمر كثيراً ما لا يلاحظه المراقبون الخارجيون، يحث التقرير المنظمات الإنسانية والحكومات على العمل على افتراض أنه يحدث. ويتخذ الكثير من منظمات الإغاثة، بما في ذلك عناصر من الحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر، المزيد من الإجراءات ليجعلوا الحماية من العنف الجنسي والجنساني جزءاً لا يتجزأ من استجابتهم لحالات الطوارئ.
فقبل موسم الأعاصير، على سبيل المثال، تستخدم الجمعية الوطنية للصليب الأحمر في هايتي الراديو، والتلفاز، وخدمات الرسائل القصيرة على الهواتف الجوالة لمشاركة المعلومات حول كيفية التأهّب وفي نفس الوقت رفع الوعي بشأن العنف الجنساني.
وبدعم من اللجنة الدولية للصليب الأحمر، خفضت السيدات في كازامانس، السنغال، مخاطر تعرضهن للعنف الجنسي من خلال مشروعات توفر سبل العيش (التبرع بمطاحن الحبوب، والحبوب والمعدات الزراعية؛ وتقديم الدعم من خلال بناء حدائق السوق، والتدريب، إلخ). وقد قلّلت المشروعات من احتياجهن لمغادرة قراهن بحثاً عن الطعام والدخل وبالتالي من إمكانية وقوعهن فريسة للمعتدين.
هاتان فقط نقطتان في قائمة متنامية من الجهود التي يدعمها على مستوى عالمي قرار أصدرته الدول والحركة في مؤتمرها الدولي الـ 32 في ديسمبر 2015، والذي يدين على وجه التحديد العنف الجنساني بكل أشكاله، وبالأخص أثناء الكوارث والنزاعات، ويدعو عناصر الحركة والحكومات إلى اتخاذ المزيد من الإجراءات لمعالجة القضية.
غير أن جهود المساعدة، والحماية، والوقاية هذه تحفزها بشكل أكبر الحاجة إلى حماية صحة ومصلحة الضحايا أكثر من الأثر الاقتصادي أو الأثر على التعافي العام للمجتمع.
ومع ذلك، تبين دراسات كثيرة حول مشروعات القروض متناهية الصغر التي تركز على السيدات بالدرجة الأولى أنها تلعب دوراً حيوياً بشكل ملموس في التماسك الاقتصادي والاجتماعي للمجتمعات الفقيرة.
وبالنسبة للناجيات من العنف الجنسي، اللاتي كثيراً ما تهمشهن أو تنبذهن أسرهن ومجتمعاتهن، تعد التدخلات للمساعدة في حماية كرامتهن واستئناف سبل عيشهن عوامل أساسية لمساعدتهن على التعافي، وفي نهاية الأمر على المساهمة في اقتصاداتهن المحلية.
وبما أنّ السيدات المرتعبات لدرجة تمنعهن من الخروج من المنزل أو لا يمكنهنّ سوى التركيز على سلامة المقربين إليهن؛ فلا يمكنهن حرث الحقول، أو دعم أولادهن، أو توفير الحب، والدعم، والحماية التي يحتاجها الأطفال، فإنّ حماية السيدات عقب حدوث حالات الطوارئ، لا تعد أمراً ضرورياً فحسب لحقهن في حياة وكرامتهن، لكنها أيضاً أمراً بالغ الأهمية للتعافي التام للمجتمع المتضرر.
وحيث أن الفترات الزمنية للنزاعات أصبحت أطول مما كانت عليه من قبل، نظراً لأن العنف أصبح في المناطق الحضرية متجذراً بشكل متزايد، ولأن التغير المناخي يؤدي إلى تنافس شرس على الموارد النادرة بالأصل، كثيراً ما يُغفل عن المساهمة التي تقدمها السيدات في قدرة مجتمعاتهن على الصمود في وجه هذه الأزمات والتحديات.
دفعت جائحة كوفيد-19 روبالي إلى الاجتهاد في البحث عن مصادر دخل لإعالة أسرتها، لكنها تمكنت من تحويل منحة نقدية صغيرة إلى مشروع تجاري عائلي مزدهر.