كان حي صلاح في تعز منطقة سكنية هادئة ولكنها كانت مزدهرة للغاية قبل النزاع في اليمن. الصورة: خالد السعيد/ اللجنة الدولية للصليب الأحمر

مدن على خط النار

فيما تتزايد أهمية المدن كتجمعات سكانية ومراكز اقتصادية، أصبحت فقد أصبحت كذلك تمثّل جبهات وخطوطاً أمامية في معظم الصراعات المسلحة في عصرنا الحالي.

تقع مدينة تعز العريقة في جنوب غرب اليمن، على بعد ساعة واحدة فقط بالسيارة من ساحل البحر الأحمر. وكانت في السابق المركز الصناعي في البلاد، ومركزاً لإنتاج القهوة وعاصمة اليمن الثقافية.

تحولت معظم مناطق مدينة تعز حالياً إلى أطلال مدمرة، واستحالت العديد من المباني المعروفة ببنائها من الطوب البني والأبيض إلى أنقاض، وأصبحت الشوارع مليئة بالسيارات المحترقة والحطام. وتحوّل اليوم قصر الحاكم الشهير، القلعة التي بنيت على جبل مخروطي، إلى أكوام من التراب.

عانى سكان المدينة، الذين يبلغ تعدادهم أكثر من نصف مليون نسمة، من القصف المتواصل الشديد ومن نيران القناصة واشتباكات الشوارع والقصف الجوي.

ويعني الجمود النسبي بين القوى المتحاربة أن خطوط التماس الأمامية لم تخضع إلى تغيرٍ كبير خلال عدة أشهر، وهذا ما وضع السكان في أتّون مواجهة طويلة ومريرة.

لقد أصبحت شوارع المدينة، التي كانت في السابق تنبض  بالحياة وتعجّ بحركة المرور والسيارات والأكشاك والأسواق، عبارة عن فضاءات خوف وحياة وموت. وتقول حنان الدهبلي، وهي أرملة لديها طفلة مولودة حديثاً: “كنا سعداء للغاية حتى اندلعت الحرب في المدينة”.

بات اليوم المدنيون الذين لا علاقة لهم بالقتال محاطين بالدمار والدم والخوف والوحدة. وتقول الدهبلي: “كنت أعانق طفلتي عندما تبدأ الاشتباكات والقصف وآخذها إلى الغرفة الأخرى حيث أصوات الرصاص والقذائف أخف. وفي يوم من تلك الأيام المريرة، خرج زوجي لشراء بعض حاجيات المنزل. وبينما كان في طريق عودته إلى المنزل، تعرض للقنص على يد أحد القناصة على سطح مبنى مجاور، ومات. لم يكن زوجي مقاتلاً. حتى أنه لم يكن يعرف كيف يحمل السلاح”، وتضيف “في ذلك اليوم انتهت حياتي”، لافتة إلى أنّها من دون دخل زوجها وبعد فقدانها لوظيفتها كسكرتيرة في عيادته لطب الأسنان، لم تعد قادرة على دفع بدل الإيجار فاضطرت إلى الانتقال مع والديها. وتقول: “لم يتبق لي أي شيء في هذه الحياة سوى بعض الذكريات ومدينة كانت تنبض بالحياة في يوم ما”.

آثار حرب المدن على المدنيين

يمثل الألم الذي تحملته هذه المرأة، إلى جانب ملحمة تعز نفسها، أمثلة واضحة على الظاهرة التي تحولت اليوم إلى ظاهرة شائعة: حروب المدن الطويلة ذات الآثار المدمرة. وتعد مدينة حلب السورية من أكبر الأمثلة الحديثة. ، غير أنّها ليست الوحيدة على الإطلاق.

هناك اليوم قائمة طويلة من المدن التي عانت – أو لا تزال تعاني – من الآثار المدمرة لحرب المدن. وأمامنا عدة أمثلة: في سوريا، لدينا حمص وداريا ودير الزور وإدلب. وفي اليمن، لدينا عدن وتعز وصعدة وصنعاء. وفي العراق، لدينا الفلوجة والموصل والرمادي وبغداد وغيرها.

ويفصّل تقرير جديد صادر عن اللجنة الدولية للصليب الأحمر، بعنوان: رأيت مدينتي تموت (من المتوقع إصداره في أيار/ مايو)، الخسائر البشرية في الحرب الحضرية (بما في ذلك قصة حنان الدهبلي المذكورة أعلاه). كما يشرح بعض الأسباب ويقدم مجموعة فعالة من التوصيات للحد من التأثير المدمر على المدنيين والمدن التي تدعمهم. ويركز التقرير على الشرق الأوسط، ولا سيما العراق وسوريا واليمن، حيث تم تعريف الصراعات بشكل كامل تقريباً على أنها صراعات على المناطق الحضرية.

لماذا إذاً، تندلع كل هذه الصراعات في بيئة حضرية؟ فوفقاً لآراء الخبراء الذين قابلناهم خلال إعداد هذا التقرير، يستخدم المقاتلون أحياناً المناطق الحضرية لأغراض تكتيكية، أو للاختباء من القوات المعادية أو لاستدراجهم إلى موقعٍ ضعيفٍ نسبياً. وبينما كان المتمردون في العقود الماضية يميلون إلى الاختباء في المناطق الجبلية أو في الأدغال، جعلت التضاريس المفتوحة في الشرق الأوسط من المدن مكاناً منطقياً ملائماً لتنفيذ عملياتهم وفقاً لبعض المراقبين.

من جهةٍ أخرى، كثيراً ما تقول الأطراف المتحاربة إنّها ينبغي أن تقاتل في المناطق الحضرية للدفاع عن السكان المحليين أو عن أراضيها. وتتمتع المدن أيضاً بقيمة رمزية واستراتيجية وتتنافس الأطراف المتحاربة في سبيل السيطرة على السكان والموارد الصناعية والاقتصادية وتحقيق الأهداف الدعائية.

عواقب كارثية

وبغض النظر عن أسبابه، فإن القتال في البيئة الحضرية يتسبب بعواقب كارثية. فقد أفادت المستشفيات الرئيسية في تعز أنها تلقت على سبيل المثال في غضون فترة 72 ساعة فقط في تشرين الثاني/ نوفمبر 2016، ما معدّله 200 جريح يومياً، وكان الكثير منهم يعانون من إصابات ناجمة عن انفجارات. واضطر الكثير من المصابين إلى الخضوع لعمليات بتر الأطراف.

ومن الحقائق المأساوية الأخرى أن هذا النوع من الطلب الهائل على الرعاية الطبية العاجلة غالباً ما يأتي عندما تكون أنظمة الصحة العامة في المدن التي مزقتها الصراعات قد انهارت تماماً.

وفي الوقت الحالي، لا توجد مراكز مفتوحة للصحة العامة في تعز، وفقاً لما ذكره الوفد الفرعي التابع للجنة الدولية للصليب الأحمر في تعز، في حين يعمل المستشفيان الوحيدان في المدينة- أحدهما حكومي، والآخر تابع للقطاع الخاص – بالحد الأدنى من الموارد وعدد من الموظفين يتضائل بشكلٍ مستمر. ويتعرّض عاملو القطاع الصحي في هذه المستشفيات للإجهاد نتيجة العمل لساعات طويلة والانقطاع المتكرر للتيار الكهربائي والقصف بسبب قربهم من الخطوط الأمامية.

وبما أنّه ينبغي على المستشفيات أن تعطي الأولوية للمصابين بجراح تهدد حياتهم، لا يتوفر الوقت أو الموارد الكافية لمعالجة المسائل الصحية العامة، مثل: صحة الأم والرضيع والتطعيم الروتيني أو رصد الأمراض المعدية٫ فيما تركز المستشفيات الميدانية التي تديرها الجماعات المسلحة بشكل أساسي على جرحى الحرب.

وفي ظل هذا الواقع،، تعد خدمات الإسعاف الأساسية غير موجودة تقريباً، كما تعيق الحروب في كثير من الأحيان قدرة العاملين في المجالين الطبي والإنساني على الوصول إلى المصابين في ميدان القتال. وبالإضافة إلى ذلك، فإنّ أيّ بعثة طوارئ ميدانية تتطلّب مفاوضات متعددة عبر الهاتف وعند نقاط التفتيش التي تسيطر عليها مختلف الجماعات المسلحة الموجودة في المدينة.

وبسبب ارتفاع الكثافة السكانية في مناطق صغيرة، يمكن للحرب الحضرية أن تتسبب بأعداد هائلة من الضحايا بسرعة كبيرة. وبالإضافة إلى ذلك، يقول ماورو دالا توري، وهو جراح حرب مخضرم في اللجنة الدولية للصليب الأحمر يعمل اليوم كخبير في إصابات الأسلحة المتفجرة مع فريق اللجنة الدولية المعني بالتلوث الناجم عن السلاح: “إن طبيعة البيئة التي صنعها الإنسان، وهي مناطق مغلقة من الصلب والخرسانة، تؤدي إلى مخاطر ذات طبيعة خاصة “، مضيفاً أنّ “هذه المناطق الحضرية المغلقة أو شبه المغلقة تعكس صدمات الأجهزة المتفجرة بطريقة أكثر فتكاً مما هي عليه في المناطق المفتوحة”.

بقلم: مالكولم لوكارد

مالكولم لوكارد محرر مجلة الصليب الأحمر والهلال الأحمر. تم إعداد هذه المقالة بالاعتماد على تقارير ميدانية إضافية من الموصل أعدّها جو كروب، من الاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر، ومن تعزّ أعدّها فريد ​​الحميد للجنة الدولية للصليب الأحمر.

متطوعو الهلال الأحمر العربي السوري في حلب ينقلون المحتاجين للمساعدة الطبية عبر الخطوط الأمامية. الصورة: إسلام مارديني/ الهلال الأحمر العربي السوري

مجبرون على الفرار أو الوقوع في الجحيم

ولا تتسبب أسلحة الوقت الحاضر المتفجرة القوية في إصابات عديدة فحسب، بل يمكن أن تؤدي إلى تهجير أعداد هائلة من الناس وبسرعة كبيرة.

وعندما تستهدف الأطراف المتحاربة المدنيين عمداً أو بشكل منهجي، يزداد سفك الدماء والتهجير على نحوٍ واسع. ويمكن لأعداد النازحين في الأحياء الحضرية المكتظة بالسكان أن تتجاوز بسرعة قدرة المدن القريبة أو حتى البلدان على استيعاب السكان النازحين واستضافتهم بشكل ملائم.

ويمكن للوضع أن يكون أسوأ من ذلك بكثير بالنسبة للعالقين بفعل القتال. ومع أن المدن في أغلب الأحيان تمثل محركات اقتصادية تدفع بالاقتصادات الإقليمية في الأوقات العادية، ولكنها تعتمد أيضاً وإلى حد كبير على الموارد الخارجية لتلبية الاحتياجات الأساسية مثل: الغذاء والماء والتدفئة.

حالات الحصار

وقد اتّسم الصراع في البلدات والمدن اليوم أيضاً بانتشار حالات كثيرة تشبه شكلاً قديماً من أشكال حرب المدن والمتمثل بالحصار. فقد تعرّض الجزء الشرقي من حلب، على سبيل المثال، إلى حصار دام 190 يوماً، وسبّب هذا الحصار ومنع دخول المساعدات الإنسانية الأخرى في المدينة معاناة شديدة للسكان المدنيين. غير أنّ العديد من المدن والبلدات السورية الأقل شهرة مثل: دير الزور وداريا وكفريا والفوعة ومضايا قد رزحت كذلك تحت حصار المتمردين أو القوات الحكومية في فترات مختلفة خلال الصراع.

وفي فترات الحصار هذه، يعاني السكان معاناة هائلة ولكنهم يظهرون صموداً مذهلاً. ففي ظل انعدام إمدادات الطاقة، يعتمد الناس في أغلب الأحيان على الأضواء التي تعمل ببطاريات الرصاص، والتي يتم شحنها بواسطة مولد كل يومين أو ثلاثة أيام. وقد عانى الكثير من الأطفال الصغار في بعض المدن من ضعف البصر بسبب قضائهم وقتاً طويلاً في الظلام، حيث كانوا يعيشون ويدرسون في الأقبية حفاظاً على سلامتهم.

ومع عدم توفر البترول، يجري الحفاظ على عمل المباني ذات الأولوية مثل: المدراس والمستشفيات٫ باستخدام وقود  “طلقة” (الوقود الذي يجري الحصول عليه من خلال عملية تكرير بديلة يتم فيها غلي وتكرير قطع صغيرة من البلاستيك) .

لا تعد مدينة تعز اليمنية محاصرة تماماً، غير أنّ الصعوبة الشديدة في إدخال وإخراج السلع من وإلى المدينة أدت إلى ظروف أشبه بالحصار، ومن ضمنها بالطبع انهيار الاقتصاد المحلي. وتقول نانسي حمد، رئيسة الوفد الفرعي للجنة الدولية في تعز: “أغلقت معظم الأسواق في المدينة، أما الأسواق القليلة التي لا تزال تعرض بعض المواد الغذائية، فالأسعار فيها مرتفعة جداً بحيث لا يستطيع الناس شراء أي شيء”، مضيفة: “لقد تزايدت حالات سوء التغذية زيادة كبيرة وخصوصاً بين الأطفال”.

وتتابع حمد قائلةً: “لقد رأينا الناس يأكلون من القمامة لأنهم لا يمتلكون أي وسيلة للحصول على الغذاء.. رأينا نساء يقطفن أوراق الأشجار ويغلينها لإطعام الأطفال فقط بعض الحساء الساخن. ففي مثل هذه الثقافة التي تفتخر كثيراً بمطبخها المتنوّع، يعني التقاط الطعام من أكوام القمامة أو غلي أوراق الشجر، ، أنهم قد وصلوا إلى أقصى حدود [اليأس]”.

ويشكل تخفيف أزمة الجوع عن السكان المحاصرين أو التخفيف من المعاناة  في ظل ظروف تشبه الحصار٫ تحدياتٍ هائلة للمنظمات الإنسانية التي تواصل توجيه نداءات عاجلة للوصول إلى المدن المحاصرة وتقديم إمدادات غذائية وطبية لمن هم في أمس الحاجة إليها.

وقد وجب على تلك المنظمات الإنسانية أن تكون مبتكرة أيضاً. فمع توقف المعونة الغذائية الإنسانية عن تعز، بدأت اللجنة الدولية بدعم 29 مخبزاً محلياً في آب/ أغسطس 2016 لتوفير الخبز مباشرة إلى الأسر الأكثر احتياجاً. ويتلقى السكان المشاركون ما يصل إلى 18 رغيفاً من الخبز من بعض المخابز التي تدفع لها اللجنة الدولية. ومع أن هذا الدعم لا يزال بعيداً عن تلبية الاحتياجات الغذائية الكاملة لسكان تعز، إلا أنه يحدث فارقاً ملحوظاً. ويصل البرنامج اليوم إلى حوالي 13 ألف أسرة (35 ألف نسمة)، فيما يُتوقّع أن تغطي المرحلة القادمة 25 ألف أسرة.

“لقد مر هؤلاء الأشخاص بتجارب مروعة، لذلك يحتاجون إلى أكبر قدر ممكن من الدعم الذي يمكن أن نقدمه لهم”.
مهدية، متطوعة دعم نفسي اجتماعي في جمعية الهلال الأحمر العراقي تبلغ من العمر 29 عاماً

“إن طبيعة البيئة التي صنعها الإنسان، وهي مناطق مغلقة من الصلب والخرسانة… تعكس صدمات الأجهزة المتفجرة بطريقة أكثر فتكاً مما هي عليه في المناطق المفتوحة”. ماورو دالا توري، جراح حرب مخضرم في اللجنة الدولية للصليب الأحمر يعمل اليوم كخبير في إصابات الأسلحة المتفجرة

يقدم موظفو ومتطوعو جمعية الهلال الأحمر العراقي الغذاء والإغاثة والدعم النفسي والاجتماعي للأسر في مخيم الخازر الذي أنشئ للأشخاص الذين فروا من الموصل والبلدات المحيطة بها. الصورة: سافين أحمد/ جمعية الهلال الأحمر العراقي

خدمات مترابطة

يعتمد سكان المدن اعتماداً كبيراً على شبكات معقدة من الخدمات المتشابكة للغاية. ويعتمد مد وإيصال المياه على إمدادات الكهرباء الفعّالة والتي قد تعتمد على إنتاج النفط وتوفير وقود البترول. وإذا تعرض أي جزء من هذه النظم المعقدة المزوِّدة بالمياه أو الكهرباء أو عمليّة التصريف فيها، إلى ضرر أو تدمير أو استهداف متعمّد، فإن آلافاً عديدة أو حتى ملايين من الأشخاص قد يتعرضون لخطر الإصابة بالأمراض القاتلة التي يمكن الوقاية منها.

وهكذا، ينبغي على العاملين في المجال الإنساني العمل مع مجموعة واسعة من مزودي الخدمات لمساعدة المدن على التكيف. ففي حلب، عمل الهلال الأحمر العربي السوري واللجنة الدولية للصليب الأحمر ومجالس المياه المحلية على إنشاء شبكة مياه بديلة، وذلك عن طريق إصلاح أو حفر أكثر من 120 بئراً، كما يقول مايكل تلحمي، المُنسق الإقليمي لبرامج المياه والسكن في اللجنة الدولية في الشرق الأوسط.

فضاء مليء بالمخاطر

وينطوي الحفاظ على هذه الأنظمة على مخاطر كثيرة. فكلّما تم استخدام الأسلحة المتفجرة، تبقى نسبة معينة منها من دون أن تنفجر حتى يصطدم بها شيء ما. وبالتالي، قبل  بدء أعمال الإصلاح في المناطق الحضرية، ينبغي مسح المنطقة أولاً وإزالة القنابل غير المنفجرة؛ وهذا العمل مكلف للغاية ويستغرق وقتاً طويلاً، غير أنّه في غاية الأهمية. ويضاف هذا التحدي أيضاً إلى العديد من التحديات التي تعيق استعادة الحياة إلى وضعها الطبيعي بعد حرب المدن.

وقد يستغرق إصلاح الدمار الناجم عن حروب المدن وقتاً طويلاً. فقد استغرقت الفضاءات والمناطق المختلفة في المدينة في كثير من الحالات عقوداً أو حتى قروناً لبنائها. وفي القتالات العنيفة، يمكن لكل هذه الإنجازات إلى جانب المؤسسات والمعالم المحلية الهامة أن تدمَّر في غضون ثوان معدودة، مما يترك ندوباً ستحتاج إلى مليارات الدولارات من الاستثمارات وعشرات السنين من العمل لمعالجتها.

وقد أجبر تزايد معدلات الصراع الحضري المنظمات الإنسانية على إعادة التفكير وتحسين الطريقة التي تساعد بها المدن على الاستعداد للعنف المكثف. وتتمثّل إحدى الخطوات التي اتخذتها وحدة التلوث الناجم عن السلاح التابعة للجنة الدولية في العراق وأوكرانيا، على سبيل المثال، في تحديد المواقع الصناعية وغيرها من الأماكن التي يمكن فيها تخزين مواد كيميائية سامة أو مواد خطرة أخرى.

ويمكن أن تكون هذه المعلومات هامة للغاية عند الإعداد لاحتمال وقوع إصابات جماعية إذا ما أطلِقت المواد الكيميائية السامة في المناطق الحضرية المكتظة بالسكان.

وجرى مؤخراً تسليط الضوء على هذا الشأن عندما تمّ استخدام عامل كيميائي سام أثناء القتال حول الموصل، حيث أدخِل 15 شخصا – من بينهم أطفال – إلى المستشفى ظهرت عليهم أعراض سريرية تنطبق على التعرض لغاز كيميائي مولد للبثور.

وفي ضوء هذه الحالات والمزاعم اللاحقة باستخدام هذا النوع من السلاح، تذكّر فرق اللجنة الدولية جميع أطراف النزاع بأن هناك حظراً مطلقاً على استخدام الأسلحة الكيميائية والبيولوجية وعلى التزاماتها بالامتثال للقانون الدولي. وفي الوقت نفسه، عملت اللجنة الدولية على بناء قدرات مرفقين صحيين بالقرب من الموصل وزودتهما بمعدات التدريب والحماية لتمكينهما من المعالجة الآمنة للمرضى الذين تعرضوا للتلوث الناجم عن السلاح.

ومن الممكن لاستخدام مثل هذه الأسلحة في المدن أن يؤدي إلى خسائر هائلة في الأرواح كما من المرجّح أن يربك النظم الصحية المحلية لتتجاوز قدراتها. ولا تعد الغازات الكيميائية السامة أو الممرضات البيولوجية ضارة أو قاتلة للشخص المتضرر مباشرة فحسب، بل يمكنها أيضاً أن تلوث العاملين الصحيين وسيارات الإسعاف وغرف العمليات وحتى المستشفيات بأكملها، مما يجعل هذه المرافق الحيوية عديمة الجدوى تماماً عندما تشتد الحاجة إليها.

ويقول جوني نعمة، رئيس فريق الاستجابة الإشعاعية والبيولوجية والنووية في اللجنة الدولية للصليب الأحمر: “أصبح لدى العاملين في المستشفيات، اليوم عندما يشتبهون في استخدام غاز كيميائي، التدريب والمعدات الكافية لمعرفة كيفية حماية أنفسهم وكيفية التعامل مع الحالة قبل دخول الشخص إلى المستشفى”.

أكثر من مجرد شوارع وأبنية

إنّ المدن في نهاية المطاف تعني أكثر بكثير من مجرد مبانٍ، وشوارع، وأنظمة مياه ومستشفيات. ولا تتوقف الجروح التي يعاني منها السكان على الإصابات الجسدية فحسب، بل كثيراً ما ينتج عن الحرب في المناطق الحضرية تفكك المجتمعات المحلية وتشرذم الشبكات الاجتماعية.

فيمكن للصدمة العنيفة الشديدة لحرب المدن؛  الخوف المستمر والعنف الشديد والشعور بالعجز، أن تتسبب بجروح نفسية عميقة. ولكن هناك مع ذلك نقص عميق في تقديم الخدمات النفسية للأشخاص الذين ما زالوا يرزحون تحت الحصار بفعل القتال، فضلاً عن الأشخاص الذين يعيشون في المخيمات وفي مدن البلدان المجاورة.

لهذا، تهدف الاستجابة الإنسانية أيضاً إلى تحقيق الصحة العقلية للسكان. وتحاول مجموعة من متطوعي الدعم النفسي والاجتماعي لدى جمعية الهلال الأحمر العراقي في فرع دهوك القريب سد هذه الفجوة في مخيم الخازر للنازحين شرقي الموصل. كما ويركّز هؤلاء المتطوعين تركيزاً إضافياً على مساعدة الأطفال الذين يشكلون نصف المقيمين في المخيم تقريباً والذين لم يذهبوا إلى المدرسة لمدة عامين.

وتقول مهدية، المتطوعة البالغة من العمر 29 عاماً: “لقد مر هؤلاء الأشخاص بتجارب مروعة، لذلك فهم يحتاجون إلى أكبر قدر ممكن من الدعم الذي يمكن أن نقدمه لهم”.

وقد أخبرت بثينة، إحدى الناجيات، وهي أم لثلاثة أطفال، واحدة من متطوعات الدعم النفسي الاجتماعي في الهلال الأحمر العراقي، كيف هربت من الموصل مع زوجها وأطفالها و14 شخصاً آخرين في سيارة شقيقها. لقد اضطرت الأسرة إلى مغادرة منزلها ومدينتها تاركة خلفها جميع ممتلكاتها. وتقول بثينة: “نعلم أننا في أمان اليوم. لذلك لم تعد هذه الممتلكات مهمة”.

ذات صلة

هبوط سلس

بالنسبة للمتطوعين مثل سامي راهيكاينين، فإن بناء الثقة مع المهاجرين الذين يأتون إلى مكان جديد بحثًا عن حياة جديدة أمر بالغ الأهمية. هذه قصته.

النهر الذي يُعطي ويسلب

تشكل مخاطر الفيضانات التي تتعرض لها مقاطعة رانغبور في بنغلاديش تحدياً كبيراً يعترض حياة الناس في مجتمعات الصيد المحلية الصغيرة. ولا يزال الناس، حتى بعد الدمار الذي خلّفه موسم الرياح الموسمية في عام 2019، يسعون جاهدين لإعادة بناء سبل عيشهم من نقطة الصفر.

هذا المنشور متوفر أيضًا ب:

اكتشف المزيد من القصص

احصل على قصص تستحق المشاركة وتُرسل إلى صندوق بريدك

ترغب في الاطلاع على آخر المستجدات؟

قد يثير هذا اهتمامك...

تجاوز آثار الإعصار

كيف يساعد تمكين المرأة والبرامج النقدية والتدريب على الصمود العائلات المقيمة في المنطقة الساحلية من بنغلاديش على الاستعداد وإعادة بناء حياتها في مواجهة العواصف والفيضانات المتكررة

القِ نظرة